منتدى الثقافة والادب

فحالنا كذلك الهيكل العظمي المعروض في المتحف الطبيWellcome Collection في لندن فقد كان ذلك الهيكل العظمي؛ هيكل بلاستيكي مُصنّع لا يخيف البتة، معلّق بخيط معدني يتدلى من السقف، وقد بدى للوهلة الاولى كانه قد وقع وتفكك، وأخطأ عمال الصيانة في تركيبه! هذا الهيكل الذي ترون في الصورة يحتل فيه الحوض مكان الرأس، في حين هبط الرأس ليقبع مكان الحوض!..
مع ان المتحف يوصف بالدقة والايضاح عن كل مبهم .. فهل كان هذا العمل مجرد خطا، ام انه امر مقصود ؟!.. وما المقصود من ذلك ؟!.. وما الرسالة التي اراد الفنان ايصالها للمشاهد ؟!..
لعل هذه العبارة المكتوبة في بداية المتحف هي التي تحل اللغز : الشيء الرائع حقا، الأصيل في روعته، يزيدك دهشة كلما تمعنت فيه، روعته لا تنضب، ومعانيه لا تنقضي، إنه المعنى المتجدد الذي لا يندرس.
فماذا كان يقصد هذا الفنان الغريب .. فعندها لمعة الفكرة في رأسي انه كان يوحي الينا ألا نتبرم بأحوال العالم فنقول أن العالم مقلوب، العالم يقف على رأسه، العالم يمضي رأسا على عقب. ها هو العالم يعتدل، ولكن بفرق بسيط، فريق صيّر الحوض بكل ما يرمز إليه من شهوات الإنسان (شهوة البطن وشهوة الفرج) صيّره مكان الرأس، مكان العقل. أما الرأس، قائد الحكمة، فقد تهاوى إلى مكان الحوض، إلى مكانة وضيعة وهامشية. إنه عالم خدّاع، يبدو لك سويا، يمشي ويجوب ويبطش، يخيفك رأسه الكبير الممدود لدرجة أنك تخشى أن تتمعن فيه لتكتشف أنه حوض استعلى. ألم يقل الشاعر ابن الوردي في لاميته:
اطرحْ الدنيا فمِن عاداتها *** تَخفض العالي وتُعلي من سَفلْ
لقد انخفض العالي (الرأس)، وحل محله ما سَفَل وضعا وموضوعا. وماذا كان اسم هذا العمل الرائع؟ Palindromeأو ما يسميه علماء البلاغة بالقَلْب، وهو يعني أنّ الكلمة أو العبارة الثابت نطقها، سواء أقُرأت من اليمين أم قُلبت وقُرأت من اليسار، كقولنا "سوس" أو "خوخ" أو }... كل في فلك ...{، أو "سر فلا كبا بك الفرس". أجل! هذا الفنان الطليعي يقصد أن العالم اليوم لا يفرّق بين اليمين أو اليسار، إنه عالم انقلبت فيه الأمور، عالم لا يعبا من أين يبدأ، عالم لا يستفزه أن يسقط الرأس، وأن تعلو الشهوات. فقد كان هذا ما ظننته من هذا الفنان المبدع
ولكن تبيّن لي أن الفنان وهو "وليّم كوبنغ" أنتج هذا العمل متأثرا برواية "معرض الفظائع" للكاتب "ج. بالارد". بطل الرواية وهو الدكتور "تراﭭِس"، يتخيّل أن عظام الحوض قد تكون بقايا جمجمة. وهذا قطعا مجرد خيال غير علمي، لكن الفنان استلهم منه عمله ليثير الانتباه إلى نظرية التطور التي ترى أن كثيرا من أجزاء جسدنا كان لها وظيفة مختلفة لدى "أسلافنا"، ثم تغيرت إلى ما هي عليه اليوم.
وهكذا فقد خابت كل تحليلاتي وتصوراتي عن ذلك الفنان وفنه الملفت للنظر .
أجل، إنها عين اديبنا العربي، ترى الأمور بشكل مختلف، تفسرها وهي معمورة بهم ما، وهي منزعجة من كل هذا الألم والمرض الذي يأكل العالم، ترى –وفي الوقت نفسه- تبحث عن نافذة خلاص، عن شبح شمس، عن فرصة قيد التكوين، تبحث بضراوة عن أشباه النور.
فالاديب العربي حاله حال كل إنسان لديه هنا في رأسه مدينة فاضلة، بل مجرّة فاضلة، بل كون فاضل، لكنه يوميا واقعا مريضا. فكيف لا يتوجّع ويتفجّع؟ وهذا الشعور بالفجيعة يظهر على شكل الكتابة الروائية العابقة بالشجن. الأديب بالرواية يحاول أن يجسر هذه الهوة بين كونه الجميل وواقعه الدميم الذميم. وهو بذلك ينشد الجمال والاتساق والانسجام، شأنه شأن أي فنان، لكنه ينشده بحثا.
حينما يكتب النكد، فهو يكتبه لأسباب عدة: يكتب القبح كي يوثقه ويشد الوثاق عليه. حينما يرى كل هذا القبح، فإنه يشعر بأنه شاهد مطالب على تدعيم شهادته بأكبر قدر من الدلائل. يصطاد القبح، ويلملم كل الأدلة من على مسرح الجريمة. وأحيانا يكتب القبح كي يسخر منه، وتارة كي يبغّضه إلى القارئ، وتارة أخرى كي يرصد سوء مآله، وتارة كي ينبه الأعين إلى القبح، فبعض البشر لا يدرون ما القبح، بل يشبّه لهم أنه جمال أحيانا!
أما أسوأ الأدباء، فهم جماعة الأمر الواقع، يكتبون ويشرعنون للقبح من حيث لا يدرون. هم مثلنا يتأسفون ويأسون، يبحثون عن الجمال، لكن كدّهم المسير، فاختاروا الطريق المختصرة. هم يقولون هذا هو الواقع المر، فانكفئوا في غياهبه مسرورين! هو أيضا بحث عن السرور، عن الجمال، وإن كان بالاستسلام والانصياع.
الأديب العربي إنسان ناقم على الواقع، عقله معلق بشيء أفضل، بالماينبغيات. وهو حين يكتب، يحاول جسر الهوة بين الواقع المؤلم، والمأمول. هو يبحث عن الجمال في عالم اليقظة فلا يجده، فيحاول البحث عن مواطنه في عالم الخيال. وكي يصل إلى هذا، يضطر كثيرا إلى تصوير عالم اليقظة بقبحه وقيحه، فلا مفر من ذلك. وهو حين يفعل ذلك لا يقصد أن يكرسه أو يشرعن له أو يطبع معه، بل هو يجهد كي يستعرض قبحه، كي يدينه، كي يقتله بالفضيحة!